
الصبر
درس السبت النسائي
٢٠ / ١١ / ٢٠٢١
١٥ ربيع الآخر ١٤٤٣ هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
استفتح سماحة الشيخ محمود المبارك المجلس قائلاً : الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين الحمد لله الذي قال ( واصبر وما صبرك إلا بالله )
والذي قال( و لا تحزن عليهم ولا تكُ في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)
الله يعلمنا في هذه الحياة كيف نصبر وما هي مادة الصبر ومن أين نستمده ،حيث نستمد الصبر منه جل جلاله، أي ان الإنسان لا يستطيع أن يصبر إذا لم يكن ذاكراً لاسم الله متصلاً بحضرة الله ،واثقاً بعطائه ومراقباً أنه معك سبحانه.
ففي كل الشدائد وليس فقط في الموت وإنما في المرض والفقر وفي الغنى كذلك الذي يكون الصبر فيه أشد من صبر الفقر لأن الإنسان في الغنى قد يقع في حادثة ، ولكن الفقير المسكين يمشي هويناً بحاله .
وكذلك أخبرنا الله على لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم (أنه ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله عنه بها)
فكل مصيبة في هذه الحياة فيها تكفير ، ولكن جعلني الله وإياكم أن نكون عبيداً له حقاً ، ومعنى عبيد حقاً : هو عندما كانوا يبيعون العبيد ويشترونهم وإذا زوّجوهم وأنجب العبد ولداً يصبح ذلك الولد ملكاً لهم .
فيأخذوه ويبيعونه كما يبيعون الغنم دون أي اعتراض من العبد على ولده … فلذلك هذه صورة عن العبودية
إن العبد وما يملك لسيده، فمهما أخذ أو أعطى فكل شيء له ولا تصرّف نحن في مالنا أو أجسامنا أو أولادنا إلا أننا نسير كما يجب أن نسير.
فهذه العبودية والإخلاص لله إذا أعطانا نفرح أو أخذ نحزن ولكن هذه صفة الأطفال أما العقلاء مهما أخذت منهم أمهاتهم يفرحون.
فعطاؤها عطاء ومنعها عطاء لأن الأم أو الأب أعلم بمصلحتنا منّا ، ولا نريد أن نكون كما كانت تلك المرأة تبكي على القبر فقال لها صلى الله عليه وسلم اصبري يا أمة الله، فقالت إليك عني يا رجل ، لو مصابي يقع بك لفعلت أكثر مني ولم تفهم قدر رسول الله صلى اله عليه وسلم فنبهها الصحابة أنه رسول الله .
فذهبت إليه وقالت أصبر يا رسول الله فرد عليها صلى الله عليه وسلم … إنما الصبر عند الصدمة الأولى.
فعلينا أن نتحمل ما في هذه الحياة لأنها قاعة اختبار ولا نسأل عمّا يجري لنا ونطلب الراحة والسعادة وفي قاعة الاختبار هذه ،فالمؤمن والمؤمنة يعلمون من قوة الله تعالى الذي قال: ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً )
فالصبر من الله في تلك الآية معناها كما نقول للقطار امشِإلى المحطة في البلد المعين وأنتِ تتبعين السكة فلا بد للقطار أن يسير وتتبعه جميع عرباته حتى يصل لهدفه ، فالعربة لوحدها ضعيفة لا تسير…كذلك ( فاصبر وما صبرك إلا بالله ).
فإذا لم يكن لك قلب وذكر لله متصل معه وتسير مع الله وتحبهم وتسير على شرع الله .
وحتى نكون في الحياة صابرين على حلوها ومرّها علينا أن نذكر الله وتمتلئ قلوبنا بالله حتى نعلم أن الله أحنّ علينا من أنفسنا ووالدينا والناس أجمعين ، وعندما يصير عندنا هذا اليقين، عندها مهما يأتي من عنده يكون مثل قول ضرب الحبيب زبيب ،.
فقال لنا سماحة الشيخ محمود المبارك : انظروا للعشاق مهما فعلوا لبعضهم يتحمّلون ويتغزّلون ببعضهم ،.. فالحب هو الذي يحمل أشياء كثيرة مثله كمثل مادة الكيمياء يغيّر طبائع الأشياء . فالمحب قبل الحب يكون بخيلاً جباناً ينقلب بالحب للسخاء والشجاعة من أثر الحب فلو قالت له خطيبته سألاقيك عند المقبرة لذهب إليها ومعه الهدايا والعطايا ، ولو هدده أخوتها وتعرّض لمخاطر كثيرة…. فما أحوجنا ابنتي لكثرة ذكر الله حتى نحبه سبحانه وتعالى والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (علامة حب الله كثرة ذكر الله) (وعلامة بغض الله قلة ذكر الله)
فإذا كان ذكرك خفيفاً يكون حبك خفيفاً وإذا أصابتك مصيبة خفيفة تعترضي وتسألي لِمَ حصل معك هذا، وتقولين هل لأنني ذاكرة محبة ؟! فتسقطين بالامتحان يا مسكينة .
فانظري لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كانت كل حياته صبر بصبر ومصابرة ….والله سبحانه وتعالى ختم سورة البقرة بقوله ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) فالصبر يكون لوحدك أما المصابرة بين شخصين كلاهما يصبر على الآخر ويصبّر نفسه ليفوز على من أمامه.
والمرابطة تكون بمداومة الذكر والنتيجة تكون لعلكم تفلحون ، فالصبر والامتحان والجائزة من الله ، فإما أن نصبر ونصابر ونأخذ الجائزة ونرتقي بها فبعد كل محنة منحة وجوائز لا تحصى ، أو نفشل بالامتحان ونصبح مثل عاملات البيوت والخدم يتذللون للناس ليحصلوا على لقمة عيشهم …
هذا مثال بسيط عن الدنيا فما بالك بالآخرة ؟! ففي الامتحان يكرم المرء أو يهان .
لذلك إذا مرت إحداكن بمحنة فلتحمد الله ولو كان بالمال فهو سبحانه من أعطى وهو من أخذ ، قال صلى الله عليه وسلم (عجباً لأمر المؤمن أمره كله إليه خير إذا أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له وإذا أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له )
فإذا أخذ منّا شيئاً عندها يثقل بها يوم القيامة ميزاننا ويرفع درجاتنا ويغفر زلاتنا ويجمعنا بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم .
فإذا كانت علاماتي لا توصلني لتلك الدرجات جاءتني تلك المصيبة ترفع درجاتي لأعلاها ….
فكم علينا أن نشكر الله بالمحنة ؟! قال صلى الله عليه وسلم (عظم الجزاء مع عظم البلاء )فالجوهرة عندما تكون أكبر تكون أثمن ( والله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم ) (من رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط )
ولكن الرضى يكون بحقيقته ليس بالتذمر والشكوى والأنين من شخص لشخص قال : ( إذا مرض العبد أو الأمة لعوّا دها عن الله أن فعل به كذا ، فيبعث الله ملكاً من الملائكة يقول لها : أتشكين الرحيم لمن لا يرحم ؟! فمثل رحمة الله لا يوجد رحمة ، فهو الرحمن الرحيم الكريم ، لو كان عند الناس رحمة فأثرها كأثر علبة العطر
الفارغة فيها شيء من رائحة العطر ولكنها فارغة …
فكونوا دائما ً مع الله وبصلة معه ،،
فالعلماء ورثة الأنبياء ورباطك فيهم وحبك لهم هو حبك لله ولدينه وشرعه .
ونفاقك معهم يشبه نفاق المنافقين الذين كانوا مع النبي في عهده وزمانه .
فإذا جالسنا العلماء فعلمونا كيف نذكر ونصبر حتى ننقل العلم لغيرنا و عندها نكون قد أدّينا الأمانة .
فمن أعظم الأمانات سماع العلم وتبليغه .وعدم كتمانه…
كاتم العلم قال فيه صلى الله عليه وسلم ( كاتم العلم يحشر يوم القيامة بلجام من نار ) مثل الفرس الملجومة ..
فإذا رضي الله رضيت كل الدنيا بعده وهذا هو النبي صلى الله عليه وسلم عندما رضي الله انتقل الناس من عداوته لمحبته ومن معاداته لنصرته وجعل الله لنا هذا العقل العظيم كي ينتشر الإسلام ويعم الأمن والأمان والمحبة بين الناس .
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش بين أهل الكتاب من يهود ونصارى وكذلك كفار في المدينة ومع ذلك عاش بينهم وأعطى كل منهم حريته ، ولكن مع الأيام بالمعاملة الحسنة واللطيفة وبدون إكراه دخلوا في الدين .،فالمؤمن مهما يحصل معه يحمد الله فهو لا يملك سوى الحمد لله وليس إذا ربح يفرح وإذا خسر يحزن
.. بعض الصالحين فقد ولدين بشكل متتابع فتأثر لذلك ،مع العلم أن للصّلاح درجات وهذا المؤمن مسكين عندما تأثّر ولكن كان لديه ولد ثالث فمرض كذلك توقع الأب أن الولد سيموت ولن يبقى عنده أحد .
في المنام رأى أولاده الذين ماتوا ووجد نفسه يمشي على الصراط كالحبل الممدود وفوق نهر اسمه جهنم وعلى الإنسان أن يسير عليه ولا يقع في نهر جهنم …
ففي الطريق يعطش هذا الرجل الصالح ويطلب من ولديه الماء فيقولان له إذا تركناك نقع في النار فلو كان أخي الثالث معنا كان سقاك فاستيقظ من النوم وأخذ درس وما عند الله خير للأبرار ..
.والله يخبئهم له لينتفع بهم فلماذا تجزع وتحزن ؟! فالله ما عنده إلا الخير وهو جل جلاله له منبع الذوق ، ولا يكسر ظهرك إذا كنت مخلصاً مؤمناً وإنما تأتيك المحنة بلطف فالله لطيف بعباده وأشد اللطف بعباده .
وإذ أحزنك أمر فقل الله لطيف بعباده، تلك مقولة كان يرددها بعض الصالحين ويأمر تلاميذه أن يرددوها ففيها الحكمة واللطف من الله …
ولكن عباد الله هل عباده باللسان أم القلب ، ومن أجل أن يعرفك وهو يعرفك ولكن من أجل أن يقيم الحجة عليك يوم القيامة عندما ترى مقامك ومنزلتك في الجنان ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) كي لا تجادل رب العزة وتتطلب منزلة أكثر مما تستحق .
فيقول حينها (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً ) وخذ ما تستحقه من أعمالك في الدنيا .
إن كان خيراً فخير وشراً فشر ، فالله سبحانه وتعالى لم يظلم أحداً شيئاً وهذا يجب أن يكون إيماننا ويقيننا ، فمنذ أن يكون الإنسان ببطن أمه في الأيام الأولى يبعث الله له ملكان وقيل بالشهور الأولى فيقول الملك : يا ربي ماذا أكتب فيقول الله : اكتب عمره ، وإذا كتب عمره 80 سنة ومات في عمر 60 سنة فهذا لأنه لن يصل أرحامه التي تبارك بالأعمار وما تصدّق .فنقص عمره .
فالله أعطاه سيارة توصله لمكان معين لكنه أفسدها فلم يصل بها لهذا المكان …وكذلك هناك أناس يأكلون جميع أنواع الطعام فيخسروا أسنانهم قبل انتهاء عمرهم من صنع يدهم ، فالله أعطانا أسناناً تكفينا طول العمر ولكن عندما أسأنا استخدامها خسرناهم .
وكذلك الجسد يكفينا كل العمر ، وعندما خالفنا أفسدنا أجسادنا بطعام زائد وحركات خاطئة في رياضات مؤذية ، فكلما خالفت الله في أرضه بدأت الأمراض فينا والابتلاءات .
.ولكن من يعمل بوصايا الطبيب ويسير على الأصول يشفى ويسلم بإذن الله ، والله جل جلاله هو أرحم الراحمين إذا أطعناه نمضي العمر بصحة ويتلطف الله بنا عند المحن ..
فالمؤمن يحافظ دائماً على جسده لأنه أمانة عنده وهو السيارة التي توصله لمرضات الله بالطاعات والعبادات وغير ذلك ..
.. فالصبر يحمل لنا نظافة من الذنوب حتى نلقاه وما علينا من خطيئة فما أجمل الصبر يا ابنتي … فلكم في أم سلمة كذلك حكمة وموعظة عندما مات ولدها ولم تدع زوجها يعلم حتى أكل عشاءه وبات ليلته مع زوجته وينام وفي الصباح أخبرته ، مع العلم أن زوجها سأل عنه فور مجيئه من شدة قلقه عليه فقالت له: ابنك مرتاح أشد راحة وطمأنته .
وتزّينت وأجبرته أن يكون زوجاً لها في تلك الليلة معها …وبعد هذا قالت له في الصباح وهي تستشيره في الجيران كيف رفضوا ردّ عارية قد استعاروها من جيرانهم ..وقد انفعل زوجها من هذا الحدث وأنه ليس عليهم أن يمنعوا العارية من أصحابها أو أن يحزنوا عند ردّها .
عندها قالت له إذا كانت عندنا أمانة هل نردّها ؟ فقال : أجل نعطيها ونشكر أصحابها وعندها أخبرته بأن الله أخذ أمانته بولده فيا سلام على تلك الأم العظيمة ، وأريد منكم أن تضعوها قدوة لكم مع العلم أسأل الله أن لا تبتلوا ولكن هذه هي سنة الحياة .
فالله خصص كل يوم ملك من الملائكة ينادي ، لِدوا للموت وابنوا للخراب ، فكل من يولد نهايته للموت وهذه البنايات كذلك للخراب ، فإذا وضعتوا هذا المقياس بين عينيكم فتكونوا صابرين محتسبين حتى تلتقوا يوم القيامة بأم سلمة وأكون بجوارها رضي الله عنها ،وأتصرف دائما بحكمة ولطافة ، فهذه هي زوجة سيدنا أحمد قدّس الله سّهرهم ويرضى عنهم كلهم ، وكيف قالت : لا أحد يخبره غيري ، فلا نريد أن نعكر قلب الشيخ فعنده الأشغال والأعمال الكثيرة ونريد أن نأخذ منه الماء الصافي وليس ، ..هذه المرأة تسوى جوهر الدنيا كله ، فدخلت عليه ومعها شراب بارد تمازحه وتلاطفه ثم قالت له هل هذه الأعمال تثقل لنا موازيننا .
التي نعملها تكفي أم لا ؟! فسألت عن عدة أعمال ومن ضمنها موت الصغير وموت الولد كبيراً فقال موت الولد الكبير يثقّل أكثر وقال لها على حسب المصيبة تأتي الأجور من الله فكلما عظُمت عظُم الأجر .
.فشّكّ بأمرها فهي تضحك والدموع بعينيها ، فقالت وأخبرته أن الله أراد أن يثقل موازيننا وقد توفي ولدنا، فقال لها الشيخ الله يرضى عليكِ .
،أنا أخاف عليكِ فقالت : لا عليك الله يصبّرني ، فكان يقول : يا ابني إن الله امتحننا وصبرّنا ولكن ادعوا لأمه كي يزداد صبرها..، فلا تخبري زوجك بليل ولا بوقت أكل بأي مصيبة كي لا يذهب نومه أو طعامه ولكن بكل لطافة …
ختم سماحة الشيخ محمود المبارك المجلس قائلاً : قال تعالى : ( إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً ) والله لم يقل إن المؤمن خلق هلوعاً فالهلوع هو إذا مسه الشر يجزع ويحزن وإذا مسه الخير منوعاً وقال تعالى ( إذ مسه الخير منوعاً إلا المصلين ) فالمصلون هم المحافظون على صلاتهم وأذكارهم ومجالس العلم فيتغذون منها لتنمو أهدافهم وقلوبهم بالمحبة لأهل الله فتأتي المصيبة مثل حمل البيضة ، وأنها ليست مصيبة وإنما هدية وعطية ومنحة من الله له عليها خير كثير … جعلني الله وإياكم ممن نستمع القول فنتبع أحسنه وجزاكم الله عنّا خيراً .