
السيرة (الجزء الثاني)
استفتح سماحة الشيخ محمود المبارك المجلس ب :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اقتدى بهديه إلى يوم الدين
سيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم لها أهداف شتى ، فهي رباط الحب مع رسول الله ، فعندما نعيش مع سيرته فكأننا نعيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل اعماله وكل حركاته وسكانته ، وهذا ينمي روح المؤمن كما تنمو الشجرة التي تحظى بعناية من الفلاح بالسقاية والتقليم والتطعيم وغير ذلك حتى تستكمل نموها وتعطي ثمارها
وهكذا الموفق الذي يعيش مع سيرة رسول الله حتى يستكمل فضائله
ياخادم الجسم كم تشقى بخدمته. وتطلب الربح مما فيه خسران
عليك بالروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
من أهداف سيرة الحبيب المصطفى ان نعيش مع من نحب ونسير على نهجه
قال تعالى 🙁 قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31) آل عمران
فاتباع النبي صلى الله عليه وسلم ان تمشي بسيرته وأخلاقه بين الناس
كان صلى الله عليه وسلم يكره الاصنام من صغره فعليك أن نقتدي بسيرته من كره للظلم والفساد وكل ما لا يرضي الله وما لا يطابق عقلك
ابن رشد رحمه الله (وهو الذي قامت أوربا على علومه وأفكاره )
مما قاله : لا يمكن أن يعطينا الله عقولا ثم يعطينا شرائع تخالف هذه العقول
فهذه الحكمة أدخلت الكثيرين من الأوروبيين في الإسلام
ومع ذلك تآمر عليه أبناء قومه واحرقوا كتبه حسدا
قال أبو الأسود الدؤلي :
حَسَدوا الفَتى إِذ لَم يَنالوا سَعيهُ فَالقَومُ أَعداءٌ لَهُ وَخُصومُ
كَضَرائِرِ الحَسناءِ قُلنَ لِوَجهِها حَسداً وَبَغياً إِنَّهُ لَدَميمُ
فبكى بعض تلاميذه حزنا على حرق كتبه فقال ابن رشد له : لا تبكِ على الكتب المحروقة ، إن الأفكار لها أجنحة تطير بها إلى أصحابها ، ولكن ابكِ على حال العرب فلو حوَّلت بحار الدنيا دموع لن يكفيك .
من أوائل من اسلم سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه
التقى مرة برسول الله فدعاه الى الاسلام فقال ابو بكر ما علامة صدق دعوتك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم الشيخ اليماني الذي التقيته انت ، فقال أبو بكر : واي شيخ ، لقد التقيت بالكثير من الشيوخ ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشيخ الذي حدثك عن بعثتي ، فقال ابو بكر اشهد انك رسول الله
لما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته بادر عدد من الصحابة إلى الإيمان والتصديق برسول الله فكانوا من السابقين
فكان أبو بكر رضي الله عنه من الرعيل الأول ومن أشد الصحابة توفيقا فصرف وقته وماله للدعوة إلى دين الله حتى أن عمر رضي الله عنه مرة أراد أن ينافسه في البذل فقدم نصف ماله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تركت لأهلك يا عمر ؟ فقال : تركت لهم مثل هذا ، ثم أتى أبو بكر رضي الله عنه بماله كله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تركت لاهلك يا ابا بكر ؟ فقال : تركت لهم الله ورسوله … فهذه هي عظمة ابي بكر الذي لو وزِن إيمانه بإيمان الناس جميعا عدا الأنبياء لرجح ايمانه …
ونال نصيبه من العذاب ومن ذلك العذاب كانوا يربطوه مع عثمان ومرة اخرى مع غيره في حصير عتيق ويعلقوهم من ارجلهم ورؤوسهم للاسفل ويشعلون الدخان تحتهم حتى يرتدوا ، فيزدادوا ايمانا واصرارا
وممن أسلم وكان من السابقين سيدنا مصعب بن عمير الذي كان من انعم شباب مكة فترك ماله وزينته فداء للإسلام وكانت امه تطلب من يساعدها لتقييده وتعذيبه
وكان أول الرعيل الأول السيدة خديجة رضي الله عنها التي كانت تملك نظرة ثاقبة عرفت من خلالها ان سيكون لرسول الله شان ، هذه النظر جعلتها تختار رسول الله وتعرض عليه الزواج منها مع انها رفضت عظماء قريش مع انها لم تتوقع ان يكون نبيا لكن كان تظن ان سيكون عظيما
فبعثته في تجارة لها وبعثت معه غلامه ميسرة فعاد بالربح الوفير وسمعت من غلامها ما جعلها تزداد ثقة ويقينا برسول الله فارسلت له تعرض عليه ان يخطبها
ومن قبل كان رسول الله ( وعمره يقارب الثانية عشرة )خرج في تجارة مع عمه ابي طالب حيث خشي عليه عمه فأخذه معه في سفره
فلما وصلوا إلى نواحي بصرى رآهم بحيرة الراهب فنزل إليهم على غير عادته وصار يتفحصهم انتبهوا له وقال له أبو طالب : أخبرنا ما شأنك على غير عادتك اليوم ، فأخبرهم إن بينهم عظيم. فقالوا له : كيف عرفت ؟
فقال : لما أقبلتم علينا كان الشجر يسجد والحجر يدعو ..
فلما راى بحيرة رسول الله نظر بين كتفيه فراى خاتم النبوة ، فنصح ابو طالب ان يرجع به حتى لا يراه اليهود فيقتلوه
وقيل انه عمل لهم طعاما فحضروا ففتش فيهم فلم يجد بغيته فقال : هل بقي منكم احد ؟ فقالوا : غلام عند العير
فقال : أحضروه ، فرآه فعرفه ….
وتابع سماحة الشيخ محمود المبارك قائلاً : الصفاء الروحي لبحيرة الراهب جعله يرى ويعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم
هذا اللقاء الذي حصل جعل المشككين بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون بأن هذه العلوم التي لديه تلقاها من بحيرة فرد عليهم القرآن في سورة الإسراء (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (103)
فلما سمع أبو طالب من بحيرة التزم نصيحته ورجع برسول الله إلى مكة وزاد في حراسته وحمايته بعد ما سمع من البشائر عن نبوة ابن أخيه وما رآه من قبل من ارهاصات في عام الفيل وما بعده تبشر برسول الله
وكانت السيدة خديجة ليست زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقط بل الأم والأخت والعمة والخالة ومهما ذكرنا في فضائلها لا نوفيها حقها لشدة حنانها ومواساتها ونصرتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنها لما توفيت هي وعمه ابو طالب سمى رسول الله ذلك العام عام الحزن
فقد تحملت معه الكثير الكثير
من ذلك الحصار في شعب أبي طالب حيث منعوا عنهم الطعام ومنعوا الناس ان يخالطوهم وكان هذا بمثابة جريمة في حقهم …
فتحمل رسول الله ذلك وتحملت معه حتى لا يرجع عن دينه
قال ابن إسحاق : وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث : أن قريشا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة ، بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : يا ابن أخي ، إن قومك قد جاءوني ، فقالوا لي كذا وكذا ، للذي كانوا قالوا له ، فأبق علي وعلى نفسك ، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق ؛ قال : فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء أنه خاذله ومسلمه ، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عم ، والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله ، أو أهلك فيه ، ما تركته قال : ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبكى ثم قام ، فلما ولى ناداه أبو طالب ، فقال : أقبل يا ابن أخي ، قال : فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : اذهب يا ابن أخي ، فقل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا .
وانتهى الحصار بمعجزة إلهية
وطال الحصار على رسول الله وبني هاشم، وأنفقوا جميع ما يملكون ولم يبق لديهم شيء من مال أو طعام أنفقت خديجة كل ما تملك وأنفق أبو طالب ما عنده وأنفق كل بني هاشم ما عندهم، وكادوا يهلكون جوعا
وتحمل الرسول صلى الله عليه و سلم ومن معه عناء هذه المقاطعة بصبر وجلد وكانت الآيات القرآنية تنزل لتزيدهم ثباتاً وتطالبهم بالصبر وتحدي الحصار والقطيعة، ولم يثن ذلك الرسول عن نشر دعوته فكان يخرج في مواسم الحج والتجارة يدعو كل من وفد مكة إلى الإسلام، ولقد عاب بعض هؤلاء على قريش موقفها من بني هاشم وأعجبوا بثبات محمد وأصحابه فاستحسنوا الإسلام فاعتنقوه وكان هذا على عكس ما أرادت قريش من المقاطعة
وأراد الله للمحنة الرهيبة أن تزول وللغمة أن تنكشف وأن يجتاز المسلمون الابتلاء بنجاح، فاطلع جبريل النبي صلى الله عليه و سلم على أن صحيفة المقاطعة التي كتبتها قريش قد أكلت الأرضة كل ما فيها من ألفاظ القطيعة والظلم ولم يبق بها إلا أسماء الله فأخبر النبي عمه أبا طالب بذلك فخرج إلى قريش وأخبرهم بما قاله النبي وقال: فإن كان صادقا علمتم أنكم ظالمون لنا، قاطعون لأرحامنا، وإن كان كاذباً دفعته لتقتلوه
ووافق ذلك أن قام خمسة رجال من قريش هم هشام بن عمرو وزهير ابن أميه والمطعم بن عدى وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود عابوا على قومهم ما فعلوه ببني هاشم واتفقوا على نقض الصحيفة، فطاف زهير بالبيت سبعا ونادي في أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباع ولا يبتاع منهم !! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، فعارضة أبو جهل فقام أصحاب زهير الأربعة ووافقوه على رأيه وقالوا: أنهم لا يرضون ما كتب في الصحيفة ولا يقرونه، فقال أبو جهل، هذا أمر قضى بليل ونشوور فيه بغير هذا المكان، فقام المطعم ليشق الصحيفة فوجدها على الصورة التي أخبرهم الرسول عنها، قد أكلت الأرضة كل ما فيها إلا أسماء الله وبذلك خرج بنو هاشم وبنو المطلب من الشعب وعادوا إلى مكة ليمارسوا حياتهم العادية ولكن قريشا استمرت في اضطهادهم وتعذيبهم وكان خروجهم من الحصار في السنة العاشرة من البعثة .
ولم تحيا السيدة خديجة وأبو طالب كثيرا بعد الحصار
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينسى تلك الجوهرة حتى بعد وفاتها وكان وفيا لها ولصاحباتها التي كان يقف معهن وهن عجائز فيحدثهن ويدخل السرور عليهن ويذكرهن بأيام خديجة
ولما فتح مكة نصب قبة على قبر خديجة وسكن بجوارها وفاء لها لما بذلت واخلصت
ومهما تحدثنا عنها لا نعطيها حقها
الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمود المبارك