
الخشية
درس السبت النسائي الأسبوعي 6/11/2021
استفتح سماحة الشيخ محمود المبارك الدرس قائلاً :
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصّلاة وأتمّ التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الله سبحانه وتعالى يذكر في القرآن العظيم ويقول: ((إِنَّ ٱلذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ))
هذه الخشية التي حرمها كثيرٌ من النّاس وسبب ذلك تكبّرهم على العلم ومعلمي الخشية، والخشية هي مفتاح الفلاح، قال تعالى: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ))، فانظروا إلى واقع المسلمين الآن لا نقول إلا أن عدوهم يشفق عليهم وسبب ذلك أننا حرمنا هذه القطعة فلم تحلق طائرتنا والغاية من الطائرة أن تحلق، والغاية من الصّلاة أن تقبل ونفلح بها.
(إنّ الّذين يخشون ربهم بالغيب) وليس يوم القيامة يوم الشهود يوم يرون أهل الجنة في نعيمهم وأهل النار في جحيمهم التي يفرض فيه الخشية بشكل طبيعي فالخشية تكون في الدنيا في الغيب، قال تعالى ((كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَن النعيم)).
(أنّ الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر عظيم) لهم المغفرة والأجر العظيم الله العظيم هو الّذي يقول لهم أجرٌ عظيم، على الإنسان كي يتعلم الخشية ثلاث مسؤوليات:
المسؤولية الأولى: مع الله، والثانية: مع الناس، والثالثة: مع نفسه، هذه المسؤوليات الثلاث إذا أتقنها وصل إلى الخشية.
فالمسؤولية الأولى التي هي مع الله، أن يعلم أن الله معه حيث ما كان، لأن الله أخبرنا في محكم كتابه ((وهو معكم أينما كنتم إن الله سميع بصير *………أيضا *لاتخفى منكم خافية*ايضاً * يعلم سركم وجهركم)).
فهل أصبح عندك هذا الأمر أن تراقب وجود الله معك وأن كل كلمة ستكتب لك أو عليك وأن الكاميرات تصوّرك صوت وصورة ولو كنت في قعر البئر، وسيقال لك يوم القيامة ((اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا)).
المسؤولية الثانية: مع الناس أن نكون أرحم بهم من أمهم وأبيهم فالرسول عليه الصلاة والسلام بُعث رحمةً للنّاس ((وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين)) ومعنى العالمين: أي الحيوان والبشر وكل شيء، وجميعنا نعرف حديث الباغية التي كانت عاصية لله ولكن عندما شربت من البئر ملأت فمها وحذاءها ماءً وخرجت وصنعت من الطين حفرة صغيرة ووضعت الماء لتسقي الكلب، فغفر الله لها وأدخلها الجنّة.
وأُخرى عابدة ….. كان عندها قطة عاقبتها بسجنها في الحمام وحرمتها من الطعام والشراب مدة طويلة فماتت القطة ووصفها النبي ﷺ أنها دخلت النّار وقد رآها في النّار في ليلة الإسراء والمعراج والقطة تأكل من أمعائها، والقدرة الإلهية أن الله جعل من القطة أن تستطيع أن تأكل من أمعائها في النّار ولا تتأثر بالنّار.
وكذلك النّار في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام التي تحوّلت لبرد وسلام وفكّت قيد النبي إبراهيم عليه السلام، فالنّار تحرق بإذن الله، وكذلك السكين التي لم تقطع في ذبح سيدنا إسماعيل وقالت: الخليل يأمرني والرحمن ينهاني، وإذ بسيدنا إبراهيم عليه السلام يأتيه جبريل ويقول: يا إبراهيم لقد صدّقت الرؤيا………. وفديناه بذبح عظيم…*. فالمرأة التي لم ترحم القطة نالت النّار وتلك من عمل صغير دخلت الجنّة من خلال مخلوق صغير وهو الكلب فلذلك علينا أن نكون رحمةً للعالمين.
فلا تستصغروا العمل لأن عند الله الذرة لها معنى ووزن، ما دام الشرع يأمرك أفعل ولا تستصغر، لا تستصغر التمرة إذا أكلت نصفها والنصف الثاني أعطيته لزوجك أو جارك فبذلك الفعل تكون زرعت محبة ومودة تدخل السرور على قلوب الآخرين، فعلينا أن نعامل النّاس بالرأفة لأن نبينا رؤوف وقال تعالى: ((وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم))
فإذا كنا محبين لرسول الله ﷺ علينا أن نقتدي بكامل صفاته وأخلاقه، ونصفح عمن أساء إلينا ونبادر بالاعتذار فتنقلب الكراهية إلى محبة وود، فأنت بسلوكك ومعاملتك تجذب النّاس إلى الإسلام وتكون أنت قرآناً يمشي على الأرض ، وتكون قد حولت القرآن إلى عمل، وهذه هي غايتنا وهدفنا أن يرى الناس جمال القرآن والإسلام، مثال: حضر شخص إلى سماحة الشيخ وقال: أنا ملحد، فضحك الشيخ وقال له: أنت لست ملحداً فهل تلحد بالعلم والنور والاختراعات؟ قال لا: قال: هذا هو الإسلام.
المسؤولية الثالثة: هي مع نفسك فإذا خلوت الدهر فلا تقل إنك وحدك وأن الله معي يراني ويسمعني ويكتب عملي، فلو علم اللص أنه يوجد من يصوّره هل يستمر في سرقته أما يعرض عنها ويخجل من عمله؟
وكذلك يوم القيامة يحضر لنا الله أعمالنا حيث نكون مع الناس على صلاح وإذا كنّا لوحدنا نمكر ونؤذي، فقل دائماً أنّع عليّ رقيب يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فعندما تكون مع الناس تكن صالحاً وعندما تصبح لوحدك تسمع الغناء وتنسى الله.
وقد قال الله في الغناء أنه ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل وسر قوله البقل لأنه ينبت بسرعة، فإذا دحل الغناء إلى قلبك تموتين على النفاق وعلى ما عشتِ عليه، فاجعلي يا بنتي سماعك للإنشاد ومديح رسول الله الّذي يهدّى الأعصاب ويريّح البال ويشرح القلب والصدر ويزيد محبتك ورباطاك، واسمعي أيضاً لتلاوة القرآن الكريم تستريحي، فتموتي بحسن خاتمة من عاش على شيء مات عليه ومن مات عليه حُشر عليه (يموت المرء على ما عاش عليه).
فإذا حفظنا نفسنا بالخلوة ومع الناس ومع الله وأدّينا هذه الحقوق الثلاث فهذا هو التوفيق والفضل الإلهي.
جاء أحدهم لأحد الصالحين وطلب الجواب لسؤاله، كيف أعرف نفسي هل من الصالحين أو الطالحين (المذنبين) فقال له الرجل الصالح: إن الله أرحم بعباده فلم يجعل موازينهم في أيدي أمثالهم، فميزان كل شخص بنفسه أنت تجعل نفسك من أهل النّار أو الجنّة لأن الإنسان يظلم ((وكان الإنسان قتورا……أيضا وصفه تعالى بقوله…ً جهولاوأيضاً ً ظلوماً))
فما ذكرت كلمةالإنسان في القرآن إلا وجاورها نقصاً مثلاً ((قتل الإنسان ما أكفره)) والإنسان مثله مثل الصخرة في الجبل رخيصة لا قيمة لها فعندما يصنعها أهل الاختصاص يصبح لها قيمة وتكريم، والإنسان بعد ما يتصنع يصبح له قيمة ويصبح بمنزلة المؤمن، لذلك نجد في القرآن كلمة الإنسان بجوارها نقص((والعصر إن الإنسان لفي خسر)) ((يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم)) ولم يقل الله تعالى مؤمن.
فالله لا يجعل حكم بشر على بشر ولو كان مؤمناً فهو لا يحيط بهذه القدرة الإلهية، وقال الرجل الصالح: ميزان كل إ تنسان في نفسه، فقال السائل: كيف ذلك؟ فقال: لأنك تستطيع أن تغش الناس ولكن لا تستطيع غش نفسك وتستطيع معرفة إذا كنت من أهل الدنيا أم من أهل الأخرة، فإذا دخل عليك من يعطيك مالاً ودخل عليك آخر ليأخذ منك مالاً أي الصدقة، فبماذا تفرح؟؟
فإذا طبقنا ذلك بشكل عملي فهل تفرحي بمن يدخل عليك ويعطيك المال أم من يدخل ويطلب حاجة له من مال، فإذا فرحتِ بالثانية فهنيئاً لك فهي تأخذ لك بريداً للآخرة بدون أجرة وتصلي يوم القيامة برصيد مفتوح باسمك.
فسكت الرجل وقال الرجل الصالح: إذا من يفرح بالمال فهو من أهل الدنيا، وإذا كنت تفرح بمن يأخذ منك الصدقة فأنت من أهل الآخرة، فإنّ الإنسان يفرح بمن يقدّم له ما يحبه، فإذا أعطانا أحدهم الدنيا وكنّا لا نحسن التصرّف بها عندها ستغرق، والذي يأخذ منّا الصدقة يعطينا الآخرة، وبالصدقة تبنى القصور والأشجار والأنهار ومساحات واسعة هائلة في الجنّة، فأخذ الرجل يردد: سبحان الله سبحان الله.
لذلك كان بعض الصالحين إذا دخل عليه من يريد الصدقة يقول له متهللاً فرحاً: مرحباً بمن جاء ليأخذ حسناتي إلى الآخرة بغير أجراً، مثل الذي يأخذ حقائب سفر لأهلك ممتلئة بالهدايا وبدون أجرة.
قال الرجل السائل: إذاً أقول إنّا لله وإنّا إليه راجعون، فقال له الرجل الصالح: لا تيأس من روح الله أي من رحمته، سر في ركابهم تلحق بهم.
فتابع سماحة الشيخ محمود المبارك : من يقول ضاع عمري سدى نقول له: أمشِ جانب الخيّال وأمسك بقدمه واسمع لكل ما يأمرك به وستصل إلى ما يصل إليه، فلن يتركوك ماشياً يهيئون لك فرساً أو يحملوك خلف ظهرهم ويوصلوك.
فلازمي في مجالسة الشيخ والمعلمة وعندها تكونين مثلهم، لأن في كل جلسة يصلحوا لك عوجك، وذلك من فضل الله علينا فعندما تستمعين لبعض التوجيهات والأحاديث فيكون هذا من صفاء قلبك لأن الأشجار تستجلب الأمطار، وكذلك القلوب الطيبة تلتجئ إلى الله أن يسقيها فيرسل لها حديثاً نديّاً وشعاع شمس يسقط على المرآة النظيفة ويعكسها لغيرها، والمرآة المتسخة لا تعكس شيئاً من الأنوار تستحي من نشر العلم ولا تستحي من نشر مبدئها.
فيا ابنتي عندما تجالسي تجانسي مثل الذي يجس بجوار المدفأة تنتقل حرارتها إليه، فمن جالس العلماء ينتسخ الخشوع إليه،ومن يجالس أهل الكذب يتجانس بالكذب مثلهم.
عن المرء لا تسأل وسلْ عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
والخشية حقيقتها خوف مقرون مع التعظيم والله سبحانه وتعالى يقول: ((وإياي فارهبون)) والخوف قسمان (رهبة) و (خشية) فصاحب خوف الرهبة يهرب إلى الناس لينصروه، وصاحب خوف الخشية يلتجئ إلى صاحبه أي إلى الله.
الخوف صفة الأطفال ولكن الخشية صفة الكبار، وعلامة الخشية قوله ﷺ: إذا اقشعرّ جلد العبد من الخشية الله تحاتّت عنه ذنوبه كما تحاتّ الشجرة اليابسة أوراقها.
فلنتخيل الوقوف بين يدي الله ونسأل عمّا كنا نفعل وإذا لم يتفضّل الله علينا بالمغفرة والعفو لكانت حالتنا يُرثى لها فلولا رحمة الله علينا لكنا في خسران كبير.
فمهما علمنا نعود إلى الله بخشية وإذا لم يعف ُ عنا سبحانه وتعالى لهلكنا، والنبي ﷺ يقول: (كلكم يدخل الجنة برحمة الله، قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟ قال: وأنا، قالوا: إذاً لم العمل؟ فقال ﷺ: تدخلون الجنة برحمة الله وتتقاسمون الجنة بأعمالكم).
وختاماً قال سماحة الشيخ محمود المبارك : فأنت تدخل المعرض مجاناً ولكن شراء السيارة والأغراض فهو من مالك، وكذلك الجنة نحتاج فيها للحسنات حتى نأخذ منزلتنا في الجنة، ومهما فعلتم من حسنات ادّعوا الفقر واطلبوا العون من الله.
فنحن لم نفعل شيئاً مقارنة بالسابقين الذين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، فادّعِ الفقر مهما فعلت وكن على قلق هل يقبل عملك أم لا، تكون قد جمعت بإذن الله الكثير من العمل الصالح ورجعت إلى الله وتدخل الجنة برحمة الله وهناك تقتسمها أي تأخذ القصور والأشجار بقدر عملك.
وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين.