والراسخون في العلم

25-11-2020

الله سبحانه وتعالى بين لنا أنواع الناس من خلقه فيقول جل من قائل: ((هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ)).
هذه الأهداف وهذه المعاني وهذا العلم الراسخ ((والراسخون في العلم)) ليس الذين يحملون الأوراق من أجل الرواتب والوظائف هذا ليس بالعلم النافع، وليس العلم النافع الذي نأخذه من المدارس والجامعات فقط بل هو جناح لا يحلّق بنا والدليل على ذلك أننا أصبحنا آخر الأمم بهذا الجناح الواحد ولكن عندما أخذوا الجناح الثاني وتعلموا من سيد العلماء فتحوا الدنيا فتوح العلم والمحبة والمساواة والإيثار الذي كان أحدهم يطعم كل طعامه ويبقى بلا طعام، ولكن الإسلام جاء بأن يطعم طعامه كله ويطوي جوعاً ابتغاء مرضاة الله وثواباً من عند الله.
((والراسخون في العلم)) حديثنا اليوم عنها – لعل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل هذه الصفة – العلم الراسخ هو الذي آمن بالمحكم وصدّق المتشابه منهم آيات محكمات، أي عندما نقول ((قل هو الله أحد)) هذه آية محكمة لا تأويل لها، ولكن عندما نقرأ ((الرحمن على العرش استوى)) هذه متشابهات تُؤوّل، أو في بداية السور الحروف المقطعة (حم، ق، ص، ألر…)
أما الذين في قلوبهم زيغ ومرض المنافقين وغير ذلك فيتبعون ما تشابه منه ليوقعوا الناس في الشك، لذلك كثير من الناس حالياً وقعوا في شك: البخاري هل صحيح أم لا، يتساءل عن شيء هو أصح الكتب بعد كتاب الله، فهكذا وصف النبي ﷺ فئة من الناس في آخر الزمان تقول ما وجدنا في كتاب الله أخذناه وما وجدنا في غير كتاب الله رفضناه، ((ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)).
هكذا من يتعلم لوحده من دون شيخ فشيخه الشيطان يُؤوّل له ويفهمه إنك إذا أخذت بكتاب الله لا تحتاج لغيره لا تحتاج لكتاب البشر، البشر يخطئ… يقول لك فإذا البشر يخطئ أليس رسول الله ﷺ بشر هو أيضاً بشر، نحتاج لعلمه. ((ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)).
رجل يمشي في الصحراء في ظلمات الليل بلا دليل إلى أين يصل؟ يصل إلى الهلاك لكن لو كان معه الدليل الذي يضيء له طريقه يصل إلى السعادة، لذلك لمّا مشوا مع رسول الله ﷺ على بيّنة ماذا كان منهم؟ نذكر واحدة منهم: قال لبعض أصحابه: ((كيف أصبح إيمانك يا حارثة؟)) قال: يا رسول الله أصبحت مؤمناً حقاً.
فالنبي ﷺ ابتسم وقال: ((لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانك؟))
قال: يا رسول الله أصبحت وكأني بعرش ربي بارزاً.
فلما قال هذا القول قال النبي ﷺ: ((انظر ماذا تقول يا حارثة))
قال: أجل يا رسول الله.
فالنبي ﷺ سأله ما هي أعمالك؟
قال: أسهرت ليلي معنى أسهرت ليلي ليس مثلنا على المعاصي وتضييع الوقت نسهر ليلنا، أسرت ليلي من قيامٍ وتلاوة ٍوبكاءٍ، أسهرت ليلي مع الله، يا بني لا يستكمل أحدنا الإيمان حتى يفرّغ كل ما بقلبه ولا يترك بقلبه إلا الله، لا يجتمع طيب وخبيث وإنما الخبيثون للخبيثات والخبيثات للخبيثين والطيبات للطيبين والطيبين للطيبات، فإذا لم تتب توبة بطهر ونقاء وبكاء ثم الالتجاء إلى الله بصدق، هذا الصدق محبة المعلم لا تكفي ولكن الأغلى منها هو أن يحبك المعلم.
الوصول إلى أن يحبك المعلم ليس بسهولة تحتاج إلى الصدق والهمة، لا يكفي بحضورك للدرس فقط فيصبح فينا مثل الدراويش يعمل عامل نظافة فسألوه الناس ألا تريد الزواج فقال لهم أني قد خطبت ابنة الوزير، فسألوه كيف؟! قال لهم: قد وصلت إلى نصف الطريق، ألا يجب على أمي وأبي وأنا أن نوافق؟ قالوا: بلى، قال: وافقنا، وبقي أن يوافق الوزير وابنته وزوجته.
وأنت يا بني لا تقل أحببت الشيخ ووصلت إلى نصف الطريق، الشيخ لا يريد منك إلا أن تنفذ الوصايا فإذا امتثلت وأطعت فأنت محب والشيخ لك محب، هذا يولد الشفاء.
فقال حارثة: أسهرت ليلي بالعبادة ((كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)) قم ولو قبل الفجر بخمس دقائق صلِّ ركعتين، بهذا الوقت المبارك رب العزة جل جلاله يبسط ذراعيه يقول: هل من صاحب حاجة؟ (أيعقل ألا تكون لك حاجة عند رب العزة!!)
هل من مستغفر؟ ألا يوجد عندك ذنوب!! قم وقف على باب الكريم، الكريم في الدنيا يغمرك بالخير فما باللك بأكرم الأكرمين تقف على بابه أيعقل أن يردك وأنت بحاجة؟! قف على بابه في الثلث الأخير من الليل ((إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ)) بيع يا بني، بع هذه النفس حتى يرجعها الله لك لوّامة ثم مطمئنة ثم راضية ثم مرضية ثم يرسلها لك ملهمة…
أسهرت ليلي، لتكن سهرتك في كتاب الله، في مجالس العلم، البعض من الناس يفرح عندما يكون يومه ليس فيه درس، يفرح وكأن الدرس هم على قلبه، يجب عليك أن تملأ كل أيامك بالدرس… لأجل بطنك تطلب هل من مزيد، لأجل روحك ((وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى))، لو قلنا لك كل درس تحضره لك سيارة، كم درس تطلب في الأسبوع؟ تقول كل يوم أريد عشرة دروس لأن يوجد فيها منفعة مادية، ((وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى)) افهم كلام الله.
أسهرت ليلي وأظمأت نهاري. كثير من الناس عند انتهاء رمضان يخفي مصحفه وينهي عبادته ويظن أنه ارتاح من الصوم لأنه لا يعلم أن الصائم ضيف الله معزوم عند رب العزة، خلصنا من التراويح وارتحنا من القيام، يا مسكين أنت كمن يقول إن البنك لا يعطيني ارتحت، شغل عقلك يجب أن تبكي وتقول أن البنك لم يعطني… حرمت من البنك لم يسلّفني….
أيضاً رمضان ذهب ولم يعد هناك صيام، ارجع والتزم بصيامك ولو ثلاثة أيام بالشهر، احرص على الصيام، ابق معزوم عند الله لتدخل من باب الريّان، كن ممن ((يُعرف الصائمون يوم القيامة بريح أفواههم)) الملائكة عندما تشم رائحة الصائمين تقل لهم تعالوا هذا المدخل الخاص بكم باب الضيافة والأكابر والمقدرين من باب الضيافة والاستقبال، تفضلوا من باب الريان. هذه كم تسوى بين الناس المزدحمة ينادوا لك تفضل ادخل من هذا الباب إلى الجنة.
أسهرت ليلي وأظمأت نهاري، النبي ﷺ ماذا شهد له؟ ((عبدٌ نوّر الله له قلبه بالإيمان)). هل هذا أفضل أم الدكتوراة؟ المصيبة دكتوراة وسيجارة بيده، دكتوراة وكذات وآكل ربا نسأل الله السلامة… هذا العلم الذي يظل إن لم يكن بجانبه العلم اللّدنّي النافع…
قصة: أتى بعض الصحابة يا رسول الله لإيمان ها هنا (وأشاروا إلى أفواههم) والنفاق ها هنا (وأشاروا لقلوبهم) النبي ﷺ لم يعطه اهتمام لير صدقه، فكررها مرة أخرى، وفي الثالثة النبي ﷺ مد يده إلى لسانه ودعا له بهذا الدعاء: ((اللهم ارزقه لساناً ذاكراً…)).
انظر من أين يأتي المرض… الكلام الفارغ والمزاح الكثير، وأحياناً تتكلم بكلمة قال عنها الرسول ﷺ: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة (ليضحك بها أصدقاءه ومن حوله) يهوي بها في نار جهنم سبعين خريفاً)) سبعون سنة حتى يصل لقعر جهنم… لماذا!! ليضحك أصدقاءه…
ورجل آخر مؤمن يتكلم بكلمة من رضوان الله يرقى بها سبعين درجة في الجنة.
كم يوجد فارق بين الدرجات والدركات؟! كلمة من رضوان الله وكلمة من سخط الله… كم يجب عليك المحافظة على كلامك.
((اللهم ارزقه لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وارزقه حبي وحب من يحبني)) أربع أدوية:
((لساناً ذاكراً)) عوّد لسانك لا تبقى على الذكر الخفي فقط، الذكر الخفي هو الذي ينظف القلب وهو يجعل لسانك يعمل بالأذكار والأوراد والإمداد…
((لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وارزقه حبي)) إذا لم تستطع الوصول لمحبة النبي ﷺ، لم تره، وهناك مسافة بينك وبينه، فالعلماء ورثة الأنبياء. من يحب النبي ﷺ أكثر ابحث عنه وأحبه كأنك أحببت النبي ﷺ، فبحب الحبيب أحبها وأحب كل منسوب إليها، قال بعضهم:
عشقت لأجلها السودان حتى عشقت لأجلها سود الكلاب
عندما أرى الكلب الأسود ينفتح قلبي لأحلها.
الإسلام ذكرٌ وفكرٌ، والذكر لا يكون إلا بذاكر، تحتاج إلى من بالذكر ويعلمك ويراقبك حتى يصل بك إلى كمال الصحة الإيمانية.
الفكر لا بد له أيضاُ من تعليم، لا يمكن أن تصبح مهندس أو طبيب لوحدك حتى ولو قرأت كتب الطب كلها، وإنما عليك أن تلازم أهل الطب، وهكذا المهندس والسائق يحتاج إلى معلم، وإذا كنت مقتنع أنك ستصبح طبيب من غير معلم جرب وافتح عيادة وانظر إلى أين ستصل… ستصل بك إلى حبل المشنقة لأنك آذيت الناس.
أيضاً الإيمان الذي لا يوجد فيه حب ولا طاعة ولا معلم… كيف قلبك البور يصبح بستان دون معلم؟! قال تعالى: ((وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً)) قبل المعلم لكم بعد المعلم أصبحوا كما فال تعالي: ((كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ)) وبهذا الزمان كم يوجد ناس بور بل ويحملون الأذى، سبب ذلك أنه لا يوجد من يغرس فيهم الخير والإيمان، وعندما نرى أسيادنا المشايخ رضي الله عنهم يعلِّمون الوضوء والاستنجاء والمسح و…. نحن يلزمنا تعليم الوضوء والاستنجاء والأمور الفقهية ولكن فقه الآيات أشد حاجة، النبي ﷺ عندما بدأ بالفقه بدأ بفقه الأخلاق ومراقبة الله والخشية من الله، في البداية لم يحرم عليهم الخمر ولا الربا تركهم على حالهم، ولكن بنى لهم أخلاقهم وقلوبهم، فلما بنى لهم هذا القلب العظيم الذي سيحمل ذكر الله، أصبحوا أسياد الدنيا والآخرة، والملائكة تتبارك فيهم وتزورهم، بعض الصحابة في مرضه كانت الملائكة تزوره وترى كيف حاله وهو الحصين بن عمران رضي الله عنه.
((والراسخون في العلم)) الراسخون ليس أن تكون رجل سمين، النبي ﷺ نظر إلى ابن مسعود ووصفه أنه من الراسخين في العلم وهو كان شديد النحافة وفي مرة من المرات طيّره الهواء ووقع وانكشف فخذه، ومن شدة دقة فخذه أحد الصحابة ابتسم، فسأله رسول الله ﷺ: ((أتضحك من دقة ساق ابن مسعود؟)) قال: نعم يا رسول الله، فالنبي ﷺ قال: ((والله إنه عند الله أثقل من جبل أُحُد)).
وهناك أناس في الدنيا تجده كبير ولكن عند الله ((فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً)) ليس له وزن ولا قيمة ولا أحد يعتبره سبب ذلك أنه فضّل الدنيا على الآخرة وفضّل شهوته على طاعة ومحبة الله.
((وارزقه حبي وحب من يحبني)) كلمة من يحبني يجب عليك أن تصحب المحبين ليعلموك كيف تحب وكيف تتصل القلوب ببعضها، المدرسة إذا لم تقبلك لا تفرح إذا قعدت عند بابها لأنك لا تستفيد شيئاَ، لا تستهن بقلبك الذي هو أغلى عضو فيك فإذا أهملته ومات تصبح حياتك كحياة الحيوان تأكل وتشرب وتتزوج…
نحن سنسعى لهذه الروح التي كالجوهرة والجسم هو الكرتون فلا فائدة من الاهتمام بالكرتون وإهمال القلب والجوهرة، فنحن نحتاج الكرتون لأن فيها الجوهرة، لكن عندما تخرج هذه الجوهرة (الروح) أعز الناس يقول إكرام الميت دفنه أما إذا كنت معتني بالروح تنتقل من هذه الحياة التي مثلها كمثل الطفل الجنين الذي عاش في بطن أمه على دم الحيض خرج إلى دنيا أفضل بقليل وغذا الله وفقك وفهمت على الله تخرج من دنيا القمامة وتنتقل إلى النقاء والمحبة، وإذا لمم تفهم تنتقل من السيء إلى الأسوأ وهو جهنم وبئس المصير.

(Visited 1 times, 1 visits today)

About The Author

You Might Be Interested In

LEAVE YOUR COMMENT

%d bloggers like this: